1. ترميم خشبيّات العجمي المزخرفة – تحدياتٌ طموحة واكتشافاتٌ مذهلة
  2. المعلمون الكبار لحرفة العجمي
  3. تعلُّم حرفة العجمي: مقابلة مع محمد حاج قاب
  4. بين التقاليد والتجديد: مقابلة مع عالية النعيمي
  5. أسرار كبار المعلمين القدامى
  6. روح العجمي: مقابلة مع زياد بيضون
  7. غرفة حلب …بشكل شخصي للغاية
  8. خشبيات العجمي في حلب: قصة رحلة الزخارف
  9. بيت غزالة: منزل أجدادي

بقلم رامي الأفندي

تَأبَى الفنون أن تُقيَّد ضمن حدود جغرافية، فعلى مَرِّ التاريخ انتقلت الفنون والحرف اليدوية عبر البلاد لتمتزج بغيرها فتتأقلم وتكوّن أنماطاً جديدة على امتداد رحلتها. يأخذكم هذا المقال في رحلة عبر تاريخ الزخارف في الامبراطورية العثمانية من خلال نماذج الغرف الخشبية المزخرفة بالدهان العجمي (غرف العجمي) في مدينة حلب. يهدف المقال إلى توضيح كيفية انتقال زخارف العجمي من مناطق متنوعة رغم البعد الجغرافي وتعدد الثقافات. نقَلَ الحرفيون المبدعون هذه الزخارف من أماكن بعيدةٍ فساهموا في صنع أحد أروع نماذج الفنون الحرفية السورية التي نفخر بها إلى يومنا هذا والمعروفة باسم عجمي.

زُيّنت البيوت التقليدية للأثرياء في سورية خلال العصر العثماني بالخشبيات المدهونة وخاصة في المدن التجارية كدمشق وحلب. اِزْدَانت الخشبيات بأنماط وافرة وبديعة من الزخارف النباتية والأشكال الزخرفية والتي كانت من ابتكار فنانيين ينتسبون لثقافات متعددة.

 دَأَبَ السلاطين العثمانيون على جَلْب الحرفيين والفنانين المهرة من المناطق المُسَيْطر عليها حتى إن ذلك كان جزءاً من خُطَط السيطرة على بلاد جديدة. كانت مهمة أولئك الفنانين هي إنتاج أعمال فنية مصنوعة خصيصاً للسلطان العثماني لتعبر عن أهميته الإستثنائية، وبذلك أسهمت السلطنة العثمانية بإيجاد مايشبه البوتقة التي انصهرت واندمجت فيها العديد من الأساليب الفنية فخلقت تنوعاً فنياً فريداً.

انتشرت هذه الزخارف على العديد من المواد الفنية كالخشب والخزف والمخطوطات على امتداد رقعة السلطنة العثمانية. إن تَتَبُّع أصل هذه الزخارف يمكن أن يأخذنا بعيداً ولمناطق تقع في وسط آسيا وأوروبا. بالرغم من أن هذه الزخارف جاءت من ثقافات متنوعة لكن أساليبها تطورت عبر ثلاث مراحل أساسية وقد استُخدمت جميعاً على خشبيات العجمي في حلب وهي: الأسلوب المُحَوّر (التجريدي) والأسلوب شِبْه المُحَوّر والأسلوب الطبيعي.

سيتم إيضاح هذه الأساليب وزخارفها باستخدام المصطلحات الأكثر صواباً من غيرها في نظر الباحث على الرغم من وجود العديد من التسميات التي تتنوع تبعاً للبلدان واللغات والباحثين.

 الأسلوب المُحَوّر التقليدي، ازدهر في القرنين 15 و 16 في البلاط العثماني:

تأثرت الزخارف المُحَوّرة بأسلوب زخارف وسط آسيا وشملت نوعين يطلق عليهما: رومي و هاتاي. استخدم هذان النمطان من الزخارف المُحَوّرة التقليدية في حلب خلال القرن 17 واستمر استخدامها في القرون اللاحقة.

تتكون زخارف رومي من فروع وأوراق مُلتَفّة بشكل منتظم ومتناظر. ظهرت هذه الزخارف على خشبيات الغرفة الحلبية الشهيرة المتواجدة اليوم في متحف الفن الإسلامي في برلين وعلى خشبيات بيت غزالة في حلب (انظر الشكلين 1، 2). 

جاءت تسمية  رومي من الكلمة العربية والتركية بمعنى الروم والتي تصف أرض الروم في الأناضول أو بلاد الروم والتي كانت جزءاً من الامبراطورية الرومانية والبيزنطية وأصبحت تعرف بمناطق سلاجقة الروم بعد سيطرتهم عليها وقد جلبوا معهم هذه الزخارف معهم من مناطق وسط آسيا.

أما زخارف هاتاي فأوراقها وفروعها ملتفة ومتمايلة بشكل أكثر حرية ولكن متناظرة وتضم أوراقاً وأزهاراً وبراعماً متنوعة لونت وفقط طراز لوني موحد (انظر الشكل 3). يدل مصطلح هاتاي على مناطق وسط آسيا والتي كانت تابعة لقبيلة قارا خاتاي (أو سلالة لياو الغربية) التي ازدهرت في القرن 12 الميلادي.

الأسلوب شِبْه المُحَوّر، ازدهر بين القرنين 16 – 18 في البلاط العثماني:

ظهرت الزخارف شبه المُحَوّرة بعد سيطرة السلطان سليم على مدينة تبريز وإحضار الفنان الفارسي شاه كولو. تَأَلَّقَ إبداع هذا الفنان في فترة حكم السلطان سليمان حيث اِبْتَدَعَ نمطاً جديداً دعي (ساز)، وهو نمط مشابه لـنمط هاتاي ولكن أكثر قرباً للطبيعة حيث رسمت الزخارف بشكل حر تماماً وتضمنت فروع وأوراق طويلة مموجة ومدببة، ورافقها رسومات لمخلوقات كالطيور والملائكة وحيوانات أسطورية (انظر الشكل 4).

تَتَلمذ على يد “شاه كولو” فنان مبدع هو “كارا محمد ميمي”  وأضحى فناناً مرموقاً في البلاط العثماني. ابْتَكَر كارا ميمي نمطاً جديداً يعرف باسمه في تركيا حتى اليوم وعرف عالمياً بنمط “الأزهار الأربعة” حيث أنه يضم أربع أزهار أساسية تتكرر باستمرار وهي: الزنبق (توليب) والورد والقرنفل والخزامى (انظر الشكل 5).

إن الغرفة المسماة بغرفة حلب في متحف الفن الإسلامي ببرلين والتي كانت أساساً قاعة استقبال في بيت وكيل في حلب هي واحدة من أهم نماذج خشبيات العجمي حيث برز فيها استخدام الزخارف المحورة (رومي و هاتاي) وشبه المحورة (ساز و كارا ميمي) بالإضافة للزخارف الصينية ورسومات المخلوقات الإنسانية والحيوانية والخرافية المستمدة من الروايات الدينية والأدبية (انظر الشكلين 6، 7). وهذا ما يعكس وبوضوح امتزاج الثقافات المتنوعة على يد الفنانين المهرة الذين تمكنوا من دمج كل ذلك في خشبيات غرفة واحدة.    

الأسلوب الطبيعي، ظهر في بداية القرن 18 في البلاط العثماني:

ظهرت زخارف الأسلوب الطبيعي في القرن 18 في اسطنبول بالفترة المعروفة بعصر التوليب (1713-1733). اتجهت الامبراطورية العثمانية خلال هذه الفترة نحو الثقافة والفنون الغربية بشكل كبير وخاصة فنون الباروك والروكوكو، ونتيجة لذلك استبدلت معظم الزخارف التقليدية بالزخارف الطبيعية، وظهرت زخارف مكونة من باقات الزهور وصحون الفاكهة المتنوعة. أحد أشهر النماذج من تلك الفترة هي قاعة السلطان أحمد الثالث في قصر طوب قابي في اسطنبول. شاعت هذه الزخارف في البيوت الحلبية أيضاً كبيت غزالة  وغيره (انظر الاشكال 8، 9، 10،).

يتفرد بيت غزالة في حلب باحتوائه على خشبيات عجمي من فترات زمنية متعددة ضمن العصر العثماني وبالتالي أساليب متنوعة تشمل كل ما سبق الحديث عنه. للأسف فقد خسرنا خشبيات بيت غزالة بأكملها تقريباً خلال النزاع المسلح في حلب بين عامي 2012-2016 ولكن تم توثيق ودراسة هذه الخشبيات بكل تفاصيلها من قبل كاتب المقال.

خشبيات العجمي في حلب: قصة رحلة الزخارف

شكل 10، باقات الزهور الطبيعية في المزهريات وصحون الفاكهة 
خشبيات جدران بيت دهان أو فندق قصر المنصورية، القرن 18 
(الصور: © رامي الأفندي)

كانت اسطنبول عاصمة الامبراطورية العثمانية هي مركز التقاء الفنانين الذين انتجوا وطوروا الأساليب والزخارف الفنية. وأظهرت نماذج خشبيات العجمي من حلب كيف أن هاتين المدينتين كانتا على تواصل مستمر. على الرغم من أن العمارة الحلبية يغلب عليها الطابع التقليدي المحلي الواضح  باستخدام الحجارة بالبناء والزخرفة، وأيضاً الطراز التقليدي لتصميم البيوت الحلبية، مع ذلك فإن زخارف خشبيات العجمي اتبعت الأساليب العثمانية السائدة في تلك الفترة.

يبدو أن هذه العلاقة بين حلب واسطنبول توثقت من خلال الفنانين والتجار المسافرين باستمرار. فقد ارتحل الفنانون ونقلوا معهم فنونهم عبر المدن العثمانية وكذلك التجار الحلبيون كانوا على اطلاع بالأساليب والأنماط السائدة في اسطنبول وغيرها من المدن من خلال سفرهم. فأثمر هذا التواصل الثقافي بانتقال تلك الزخارف والأساليب المتنوعة فرُحب بها داخل البيوت الحلبية لتزين خشبياتها الرائعة والمعروفة بالعجمي.