بقلم د. سارية المرزوق

في دمشق، أقدم العواصم وذات المئة وخمسين سوقاً، لازال بالإمكان رؤية ” أطلال” مابقي من سوق “السروجية” الشهير. يقع سوق السروجية شمال سوق الحميدية وسوق الخجا، محاذياً لسور قلعة مدينة دمشق الأثرية عند الباب الغربي أوباب السر، مطلاً على ضفاف نهري بانياس وبردى، مقابلاً لجامع السنجقدار (ابن المَبْرد، 1939). كان سوق السروجية يتعامد من الجهة الغربية مع سوق الزرابلية (قبل إزالته)، ويحدّه شرقاً البيوت العربية وسوق المحايرية، وشمالاً شارع الملك فيصل بن الحسين (نعيسة، 1986). يمتد ما تبقى من السوق المقبي بساتر قوسي من الحديد والتوتياء اليوم بين شارع الثورة وشارع الملك فيصل موازياً لجدار قلعة دمشق كما هو موضح على المخطط التوضيحي لسوق السروجية ومايحيط به (الصورة رقم 2).

Postcard of Suq as-Surujiyya in Damascus
الصورة 1: بطاقة بريدية قديمة لسوق السروجية في دمشق – © فولف-ديتر لمكي (CC-BY-NC-ND)
شيخ كار السروجية الأخير
الصورة 2: مخطط لسوق السروجية – © عماد الأرمشي، عن مخطط لشتيفان فيبر

يختص سوق السروجية – الذي تأسس في غالب الأمر في العهد الأيوبي قبل نحو 800 عام – بصناعة سروج الخيل وكافة أنواع حيوانات التنقل على طرق التجارة ويتم الإستعانة بها في الحقول والأعمال الخدمية الأخرى (كالبغال والحمير والجمال) (الأرمشي، 2017). تزايدت الحاجة إلى سروج الخيل مع وصول العثمانيين إلى دمشق، وانخراطهم في الحملات العسكرية فكان لزاماً تجهيز خيول المعسكرات والثكنات، فضلاً عن أهمية السروج للرحّالة والمستشرقين المستكشفين الذين جابوا الولايات العثمانية في مراحل مختلفة، وخاصة إبّان نهايات حكم العثمانيين في المشرق، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كان الجميع بحاجة للسرج العربي المصنوع في سوق “السروجية” الدمشقي (نعيسة، 1986). لم تذكر المراجع المتاحة حصرية صناعة السروج بسوق السروجية الدمشقي، إذ ذكر بعض المربين وجود صُنّاع سروج محليين في الأرياف والمدن البعيدة عن دمشق، غير أن الخيّالة كانوا يتباهون بسروج دمشق ويعتبرونها قطع زينة أساسية في المناسبات الكبرى والأعياد لكونها تحقق معادلة الجمال والجودة والمتانة.

شيخ كار السروجية الأخير
الصورة 3: المكونات الأساسية للسرج العربي الدمشقي اليدوي © خليل إبراهيم شيخ السروجية (CC-BY-NC-ND)

تختصّ عدة السروجية بالمقام الأول بلوازم ركوب الخيل، ويشكل السرج (أوالجلال الذي يفرش على ظهر الخيل) وتوابعه (الراسيات، الصرع أو المقود، الشكيمة، الحزام، الشوبند أوالصدرية، الركاب، السلبند) العناصر الأساسية فيها.

يتكون مقعد السرج من فرشة مخيطة من كافة الأطراف (تسمى الجلال)، كانت تُحشى بالقش – سابقاً – لخفة وزنه، ثم صارت تُحشى لاحقاً بالقطن وقطع القماش الزائد، وتُلبّس بالجلد، ثم بالقماش المشغول يدوياً، ممّا يضمن شعور الفارس بالراحة أثناء الركوب الخيول المسروجة بالسرج العربي مهما طالت مسافات التنقل. تصنع السروج من أجود انواع الجوخ والقطن والصوف. لمقعد السرج (غطاء الظهر) عند أهل الخيل في دمشق (وعموم بلاد الشام) إسمان: “المرشحة” إذا كان طول مقعد السرج يمتد على كامل ظهر الحصان حتى منبت الذيل، أو”الكفلية” إذا كان قصيراً. تتنوع النقوش اليدوية على السرج وتتم تحليته بالفضة والخيطان الصوفية الملونة. تشكل توابع السرج مع مقعد السرج حلية كاملة تلف قامة الحصان، وتضمن الإرتياح التام للحصان وراكبه، مع كافة مظاهر الرخاء التي تظهر للعيان من كمية التمائم الفضية، والأحجار الكريمة والأصداف والخرز الملون التي تزين الراسيات والشوبند على وجه الخصوص (الصورة 4 والصورة 6).

Handcrafted bridles with noseband for Arabian horses
الصورة 4: الراسيات مع الأنفية المصنوعة للأحصنة العربية – ©خليل إبراهيم شيخ السروجية (CC-BY-NC-ND)
Martingale aus Silber
الصورة 5:السلبند من الفضة الخالصة – ©خليل إبراهيم شيخ السروجية (CC-BY-NC-ND)
Martingale made of wool and shells
الصورة 6: الشوبند أو الصدرية المصنوعة من الصوف والمزينة بالصدف – ©خليل إبراهيم شيخ السروجية (CC-BY-NC-ND)

يتم تجديد السروج عادةً في مواسم الأعياد، أو قُبيل السفر حسب عرف أهل الشام، تيمناً وتبركاً بمقام الخيل وخير ركوبها في الأيام الفضيلة، أوعند الإرتحال للتجارة أو الحج (شيخ السروجية، 2019). مردّ ذلك في الغالب المكانة الدينية للخيول العربية في التاريخ الإسلامي، وورودها في النص القرآني (سورة العاديات) والأحاديث النبوية.

يُعتقد أن التنظيمات الحرفية تعود إلى العصر الفاطمي، ولكن ملامحها تحددت أكثر في العهد العثماني، إذ كان لكل مهنة في دمشق شيخ الكار. وبحسب ماورد في المراجع التاريخية تم تسجيل 435 كاراً في دمشق (القاسمي والعظم، 1988). والكار لفظ فارسي-تركي معناه حرفة، كان متداولاً في العصر العثماني للدلالة على أصحاب المهنة الواحدة. ولكل جماعة من أصحاب الكار الواحد رئيس أعلى يُعرف باسم “شيخ الكار”، وكان غالبية مشايخ الكار من الأشراف (أعيان دمشق والعائلات المنتسبة لآل البيت) أو الإنكشارية (ينتمي أفرادها لأقوى فرق الجيش العثماني، ويعتبرون الحرس الخاص للسلاطين العثمانيين) (فريد بك،1981). يعتبر شيخ الكار بمثابة رئيس نقابة الحرفيين؛ يُعيّن بموجب حجة صادرة عن القاضي ومسجلة أصولاً في سجلات محكمة دمشق (نعيسة، 1986).

تعدّ صناعة السرج العربي الدمشقي أحد المهن التراثية التقليدية، التي جمعت تراث المعرفة والمهارة اللازمة لإنتاج قطعة السرج وتوابعه، وتعريف الأدوات اللازمة، وحتى المصطلحات المستخدمة لوصف الأنشطة والنتائج المادية لهذه الحرفة. للأسف، تراجعت أعداد الحرفيين المشتغلين بهذه الصنعة اليوم وباتوا لايتجاوزون أصابع اليد الواحدة.

Yasin son of Amin son of Muhammad Said Sheikh Al-Sroujieh in his shop in Suq As-Surujiyya in Damascus before the partial demolition of the market in 1970
ياسين ابن أمين ابن محمد سعيد شيخ السروجية في محله في سوق السروجية – دمشق قبل هدم السوق جزئياً عام 1970.

حكاية شيخ كار السروجية الأخير: خليل شيخ السروجية

مع انتشار وسائل النقل الحديثة واختفاء الخيول من الحياة العامة، اختفى سوق السروجية – وظيفياً – وغادر معظم السروجية المَهَرة البلاد حاملين معهم أسرار المهنة القديمة، إلا أن مربي الخيول (العربية على وجه الخصوص) في كافة أنحاء العالم لازالوا مقبلين على شراء السروج العربية وتوابعها، وإن اقتصر الهدف على تزيين خيولهم في المناسبات أو جلسات التصوير، أو لمجرد تعليقها على جدران منازلهم ومضافاتهم كقطع تزيينية تراثية.

يقول السيد خليل شيخ السروجية: ” وكان الذي يعمل في صناعة السرج يطلق عليه سروجي، وعندما كانت تنشأ بعض الخلافات والمشاكل كان لابدّ من اختيار شخص لديه الخبره والذكاء واللباقة، وقبل كل هذا لديه القدرة المالية والتقوى والشخصية لحل مشاكل التجار. فأصدر والي دمشق فرماناً بضرورة أن يكون لكل مهنه مسؤول أو شيخ لإيجاد الحلول المناسبة  للسوق والتجار، وسُمي بشيخ الكار. ولمّا كانت عائلتنا هي الأقدر والأقدم  بهذه الصناعة فقد اختير جدنا شيخاً لهذه المهنة أواخر القرن الثامن عشر.حتى أن العائلة توارثت هذه المهنة وظل لقب شيخ الكار ضمن العائلة، وطغى لقب المهنة على لقب العائلة الأصلي فأصبحت تعرف بعائلة شيخ السروجية”.

Booklet of Khalil Ibrahim Sheikh Al-Sroujieh´s shop in Amman
كُتيّب عن محل ابراهيم خليل شيخ السروجية في عمّان

خليل ابن إبراهيم ابن أحمد ابن أمين ابن محمد سعيد شيخ السروجية، عميد مهنة صناعة السروج اليوم وشيخ كارها الأخير، والذي كان جده لأبيه (الشيخ محمد سعيد الشهير بأبو أمين) كبير المهنة وخبيرها وممثل العاملين في صناعة السروج أمام المهن الأخرى و شيخ مشايخ الكار من جهة، وأمام الدولة العثمانية من جهة أخرى. وكان من صلاحياته منح (أو سحب) شهادة مزاولة المهنة، وذلك بموجب الفرمان الصادر عام 1797 (سجل القسمة العسكرية / رقم 330 ، ثم سجل المحكمة الكبرى بدمشق رقم 240). يرث الحرفيون مشيخة الكار (الحرفة) في الغالب عن آبائهم أو أخوتهم، ويتم تغييرهم بموجب براءة سلطانية تقضي بتعيين شيخ كارٍ جديد وتوضح مزاياه. سوق السروجية لم يكن مختصّاً في ذلك الزمان بصناعة السروج فقط، بل كان مركزاً لتصنيع بيوت الطبنجات والبنادق الصغيرة، وكذلك أغلفة حفظ الكتب والتمائم (الدمشقي، 1341هجري).

يستعيد خليل ذكريات طفولته وفتوته في سوق السروجية الدمشقي، ثم عن ضياع مايزيد عن 14 محلاً للعائلة مع هدم جزء حيوي من سوق السروجية عام 1970. لحسن الحظ أن والده (ابراهيم شيخ السروجية) كان قد نقل جزءاً من معداته إلى عمان في الأردن واستقرّ به المقام مع عائلته وفتحوا محلاً لتصنيع السروج في شارع الهاشمي (رشيد، 2002). لازال خليل شيخ السروجية يدير محله في عمان برفقة أخوته وأبنائه محافظاً على تقليد العائلة وحرفة الأجداد، كما يداوم على زيارة دمشق بين الحين والآخر- حتى اليوم – للتزود بالمواد الأولية والأقمشة و الحبال المجدولة والمواد الأولية التي لاتوجد إلا في دمشق. يتحدث خليل شيخ السروجية عن مراحل تصنيع السرج العربي:” يتم تفصيل القالب من الخيش، ويحشى بالقطن أوالصوف، ثم يتم تثبيت الركابات ( على اليمين واليسار) وحزام بطن الحصان (من الجهة اليمنى)، ثم يتم شدّ قوسين خشبيين أمامي وخلفي – أوما يسمى بلغة أهل الكار بالكعكة، يتم تغطية الوجه بقماش الجوخ و”تدريبه” (أي خياطة مقعد السرج بإبرة طويلة وخيطان صوفية مجدولة والزوايا بشكل موازٍ لظهر الخيل) بعد أن يتم تثبيت الحشوات وضبط سماكتها لتضمن راحة الخيل والخيال، وبعدها يتم التأكد من ثبات الركابات والحزام أسفل السرج، يمكن تركيب الإكسسوارات والتي تسمى غالباً عن السروجية “طقم الصوف” وتشمل الشوبند، الرسن والرشمة، وحبل المقود”. “يستغرق تصنيع السرج الواحد ثلاثة أو أربعة أيام من العمل المتواصل”.

Khalil Ibrahim Sheikh Al-Sroujieh making a saddle for a thoroughbred Arabian horse
الصورة 9: خليل شيخ السروجية يصنع سرجاً لحصان عربي أصيل – © خليل إبراهيم شيخ السروجية (CC-BY-NC-ND)
A handmade saddle by Khalil Ibrahim Sheik Al-Sroujieh
الصورة 10: سرج حصان مصنوع يدوياً من قبل خليل ابراهيم شيخ السروجية – © خليل إبراهيم شيخ السروجية (CC-BY-NC-ND)

يتابع خليل: “أصبح اقتناء الخيول مقتصراً على الأغنياء والشيوخ والأمراء والمرابط العائدة لهم، وهم لايبخلون باقتناء أفضل السروج العربية، وقد يتعدى طلبهم لسروج الركوب إلى سروج مذهّبة بغية تعليقها كواجهة تراثية لصناعة باتت آيلة للإندثار، لم يعد صناعها الحرفيون يتجاوزون أصابع اليد الواحدة”. “ظهرت مؤخراً بعض السروج الخفيفة والرخيصة التي يستعملها الناس لامتطاء الخيول في الحدائق والمنتزهات والأماكن الأثرية، غير أنها دون سوية السروج الأصلية دون شك”.

ندرك اليوم – أكثر من أي وقت مضى – أهمية الحفاظ على الصناعات الحرفية والحاجة إلى توثيق المهارات والاحتفاظ بتفاصيلها والحؤول دون فقدان المعرفة بها وخسارة مصطلحاتها ومفرداتها مع مرور الوقت. تضاءلت الحرف اليدوية مؤخراً أكثر فأكثر، خاصة مع زحف التقانة إلى التصنيع وغياب مراعاة الصناعات التقليدية، واقتصار الاهتمام بالتفاصيل على مربيّ الخيل المقتدرين مادياً. يتلقى خليل شيخ السروجية دعوات من محافل الخيول في كافة أنحاء العالم لعرض منتجاته اليدوية، وتهتم الدوريات العالمية المتخصصة بتراث الخيول نشر مقالات عنه وعن حرفة السروجية المشرقية باستمرار، غير أن ثمة تحديات كبرى تواجه هذه الحرفة التقليدية، ولعلّ أهمها حاجة أرباب الحرف إلى أسواق تصريف دائمة مناسبة تدعم مهاراتهم وتغطي تكاليف اليد العاملة وتحقق أرباحاً معقولة لهم بغية توريثها للأجيال القادمة.


د. سارية المرزوق، مدرسة جامعية ومترجمة ألمانية-سورية. حاصلة على الدكتوراة في البيولوجيا الجزيئية من جامعة هومبولدت / برلين، وباحثة علمية في مجال التنوع الحيوي والوراثي في الخيول. نشرت كتاباً عن التنوع الحيوي في الخيول (باللغة الإنكليزية) والعديد من المواد الوثائقية والمقالات الاختصاصية في الدوريات العلمية المحكمة. فضلاً عن الترجمة التخصصّية في العديد من المؤسسات والمنظمات الألمانية.

تأليف/ نشر مشروع توثيق الإرث الحضاري السوري

مشروع تشاركي في ألمانيا لرقمنة مواد التراث السوري (متحف الفن الإسلامي ببرلين ومعهد الآثار الألماني) في الفترة من 2013-2019

Join the Conversation

5 تعليقات

  1. مقال ممتع وجميل يعود بنا إلى أيام الزمن الجميل.. نشكر الباحثة على إضاءتها لهذا الموضوع.

  2. شكرا للباحتة سارية المرزوق على جهدها في الحفاظ على تراثنا في واحد من ابرز نشاطاتنا الاجتماعية وما ببنى عليها من ثقافة ومنظومة فيمية شاملة وهي الخيول

  3. من المواضيع القيمة والتي من الصعب مستقبلا كتابتها لاندثار المهنة واصحابها..

  4. كل الشكر والتقدير للدكتوره ساريه على هذا التقرير الشامل والجامع لكل ما يتعلق بهذه الصناعه التراثيه في دمشق القديمه.صناعه السروج العربيه وادواتها.

التعليق هنا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *